خواطر ذوق جــــديـــدة جدا
عدتُ إلى المنزل مليئًا بالقلق والفراغ، حيث يصخب الصمت حولي، ويبدو صوت عقارب الساعة وكأنه يقضم الوقت ببطء متناهٍ.
تنازلت منذ زمن عن محاولة شرح نفسي للعالم، موقنًا بأن الجميع سيبنون تصوراتهم الخاصة، أياً كانت حقيقتي أو مشاعري.
قضيت أيامًا طويلة دون أن يدرك أحد ما شعرت به، ومضت الأشهر دون أن يلاحظ أحد مدى الانكسار الذي أصابني، حتى أقرب الأشخاص إلى قلبي لم ينتبهوا.
ظننت أن الاعتذار الصادق يكفي، لكنه تحول إلى دليل على أنك شخص لا يمكن أن يُؤتمَن على حزني أو يحمل قلبي بين يديه.
الألم يطغى علينا لدرجة أن المدن تبكي له، والصخور تنحني لتعاطفنا، فلا قوّة تبعدنا عن واجهة الحزن المتجذر.
كما تعلم، أنا انطوائي بطبيعتي، ليس كرهاً للناس، ولكنه جزء من ذاتي التي تفضل البعد عن قربٍ مُزعج يجعلني غير مرتاح.
في هذه الأيام، تبدو رغباتي بسيطة؛ أريد فقط أن يتوقف كل شيء عن التعقيد، أن تمر الأيام بسلام أقل تكلفة وأقل ضجيجاً.
لكن في النهاية تتجاهل ذلك كله تمامًا، تظل صامتًا طيلة الوقت، وتتجاوز كل تلك اللحظات التي تتطلب منك مواجهةً حقيقية وصادقة.
كل مشاعر الكبت التي دفعني الزمن لتجاهلها تخرج الآن في صورة غضب هائل، غضب يتفجر حتى لأبسط الأسباب وأكثرها تفاهة.
سرت وحيدًا في الشوارع الفارغة بلا وجهة، والثلوج تغمر قلبي في شوارع رأس السنة، محاطًا ظاهراً بالجميع لكن الحقيقة كانت الوحدة وحضور الغائبين.
ربما أصبحنا ناضجين بما يكفي لنفهم أن الغياب ليس اختفاءً فعلياً؛ إنه مجرد اختيار للشروق في أماكن أخرى.
إن إحساسك بالاستحقاق يجعلك ترى الألم مضاعفاً، بينما الحياة لا تمنحك ميزات استثنائية، ولا ينظر لك الآخرون ككنز فريد.
تغادر بشكل كامل دون اقتراب حقيقي، ثم تعود مترددًا مشتاقًا ومتمردًا، تخشى اللحظة التي تعيش فيها تناقضك المتكرر.
حين يعذبني الحنين، لا أجد ماضياً صادقاً أعود إليه؛ الأشياء تؤكد لي أن أخطائي كانت متجذرة في كل خطوة، ولا مجال لخوض بداية جديدة.
أشعر أحيانًا بالتيه وسط خياراتٍ مربكة ومتباينة، كل طريق للسعادة يبدو مرتبطًا بكِ وبذكرياتي معكِ التي لا تنمحي.
لا أستطيع أن أجعلك تفهم ما بداخلي، ولا يمكنني شرح ما يعتمل في أعماقي للآخرين أو حتى لنفسي؛ اللغة عاجزة هنا.
غرقني حزن ثقيل ولفّ روحي ألمٌ مظلم كاد يُحيطني بالكامل. ومع ذلك، بدت هذه المأساة ضئيلة بعد فوات الأوان.
انتقِ كلماتك معي بعناية؛ فاللغة واسعة والمفردات كثيرة، لكن مشاعري تظل شيئاً نادراً لا يقاس بأي قيمة.
حاولت بكل جهدي أن أطوي صفحة حبكِ وأن أتجاوز جراحه، لكن الأغاني وضجيج الموسيقى كانت دوماً محاولات يائسة لاحتواء ما لم يُحتوى.
حين يعيد شخصٌ فتح جرحك رغم اعتذاره لك، فهو لا يسعى للصفح بل يُتقن دور الجلاد بحرفية مريبة خلف ابتسامة متصنعة.
أيها الوفي للعهد، لم تكن مجرد عابر سبيل، بل كنت ميناءً للاستراحة بين محطات الرحيل. كنت اليقين وسط العالم المليء بالشكوك، والصمت الذي يحمل أنقى الإجابات.
عش كما تشاء في هذه الدنيا، وحقق ما تطمح إليه من شهرة أو حضور، فـ "حبل الحياة" موصول بما ينقطع، و"خيط العمر" مربوط بنهايته الحتمية.
بيننا مسافة، فجوة من الصمت، حاجز أقرب من مدى الذراعين أرتطم به كلما حاولت الاقتراب. خيبات متعددة، جروح لا تُحصى، وخطأ يتشبث بي كأنه لن يغتفر أبدًا.
ما زلت أنظر إلى الأرض التي لم تكن يومًا موطني من بعيد، وحتى الآن لم يتخلَّ عني حلمي في العودة إليها مرة أخرى.
قدراتي على التفكير والملاحظة والاكتشاف والتذكر والتواصل والمشاركة تشهد تطورًا مستمرًا، ولا بد لي من الاعتراف بذلك.
حين لا يوقظك أحد في الصباح، ولا ينتظرك أحد عند المساء، وتُترك حر التصرف بحياتك كما تشاء، لا أدري حينها إن كنت تسمي هذا حرية أو وحدة.
حتى أحلامي أبتني رغم أنني لم أطلب المستحيل. سعيت وراء البسيط فقط، لكنها اقتصرت على الابتعاد وكأنني لم أبذل أي جهد للوصول إليها.
الغربة ليست مجرد بعد جسدي، بل هي ذلك التيه الذي يعيشه قلبك وسط الحاضرين، حيث يبحث عبثًا عن وجه واحد غائب.
كل الأماكن تبدو أوسع حين يبدأ الإنسان رحلة التصالح مع ذاته أولاً، قبل أن يتقبل حضور الأشياء من حوله أو غيابها.
اختر بعناية من تزرعهم في تربة قلبك، فالزراعة دائمًا أبسط بكثير من انتزاع جذور الشجر بعد أن ترسخ في الأعماق.
